مدخل إلى لسوسيولوجيا الجسد - Sociology of the body
نزع الجسد في علم الإجتماع إلى البقاء في الظل، رغم أنه
يحافظ على بقاء ما يوجد حوله ويقوم بتغذيته. لقد كان محتماً على علم الإجتماع، في
سياق اهتمامه بالمجتمعات البشرية، أن يعنى بالسبل التي قامت عبرها الذوات الجسدية
بتجسيد وموضعة وإستعاب مختلف المؤسسات الاجتماعية، وإن ثم ذلك بطريقة ضمنية، ورغم
أن الجسد المادي بلحمه ودمه نادراً ما كان موضع إشتغال سوسيولوجي صريح. فضلا عن
ذلك، أفضت الجهود التي بذلها علماء الاجتماع المعاصرون في الآونة الأخيرة لمواجهة
والخلاص من منزلة الجسد المزدوجة في النظرية الاجتماعية إلى تراكم أعمال معينة
باستعادة الجسد إلى علم الإجتماع.
ولا يمكن إنكار أن الجسد يشغل مكاناً مهما في تاريخ الفكر السوسيولوجي، لأن خبرتنا به وترويضنا إياهُ يشكلان جزءاً من المادة العامة التي تتشكل منها الحياة الإجتماعية والنظريات الإجتماعية. هكذا تشكل خبرتنا بالجسد أساساً لتنظير الاجتماعية. لدينا كلنا أجساد وهذا يشكل جزءا مما يجعل الكائنات البشرية تحوز القدرة على الإتصال مع بعضها البعض، وتعتبر الحاجات والرغبات وحالات رضا والأحباط مشتركة بيننا جميعا. بدأت تتضح منزلة الجسد المزدوجة في السوسيولوجيا الكلاسيكية في أشغال وأعمال الآباء المؤسسين لهذا الفرع المعرفي. فمن جهة، نادرا ما كان (كارل ماركسkarl Marx 1818-1883 )، (ماكس فيبر Max Weber 1864-1920)، )إميل دوركايم(Emile Durkheim 1917 -1858, وعلماء الإجتماع الكلاسيكيون عموماً يركزون على الجسد بوصفه ظاهرة قابلة للمعالجة السوسيولوجيا. ورغم ذلك كان - الجسد في السوسيولوجيا - يحظى في بعض الأحيان بإهتمام أولئك العلماء. خصوصاً الإهتمام بالمكون المادي للضبط الاجتماعي للجسد. يستبان هذا خصوصاً في تحليل ماركس لكيف ارتبط تطور التقنية الرأسمالية بالآلية وإخضع أجساد الطبقة العاملة لها. يظهر الجسد أيضا في نظرية دوركايم في العمليات التمهيدية التي تؤسس لتشكيل الأوامر الأخلاقية، وفي أعمال فيبر في عقلنة الجسد ضمن الأنساق البيروقراطية.
ثمة عوامل وأسباب وجيهة حالت دون قيام الجسد ككل بدور أساسي في علم الاجتماع. فلقد عُني علماء الاجتماع من طراز إميل دوركايم. بتحديد وتأسيس مجال معرفي منفصل عن العلوم الطبيعية وغير قابل لأن يختزل إليها. بإعلان أن علم الاجتماع علم مستقل، حدد دوركايم أيضاً أهدافه ومناهجه قبالة أهداف ومناهج علم النفس. الذي كان معنيا فقط بالفرد في مقابل الاجتماعي. وقد اعتبر دوركايم التفسير السيكولوجي مؤسساً على ما أسماه العوامل "النفس-عضوية". يفترض أن هذه جوانب قبل اجتماعية فطرية في الكائن العضوي للفرد ومستقلة عن التأثيرات الاجتماعية. هذا يعنى أن البشر يتميزون بمثنوية الثقافة / الطبيعة، وأن الجسد البيولوجي عند دوركايم ذو موضع راسخ في مجال الطبيعة.
أثرة هذه الرؤية الكلاسيكية لعلم الاجتماع في تطوره، وكانت تعنى وجوب إستعاد الطبيعي والبيولوجي بشكل متكرر وعدم أهميته إلى مجال علماء الاجتماع. ومن أسباب غياب علم اجتماع صريح للجسد ضمن الموروث الكلاسيكي. المقاربات المنهجية التي روج لها ذلك الفرع المعرفي، وهي مقاربات تؤكد كثيراً على البحث المعرفي المجرد الذي كان يعني بطريقة ما العمل كما لو أن هذا البحث يقع خارج عن الجسد ومنفصلاً عنه. وكذا النتائج النظرية للالتزامات الإبستومولوجيا والأنطولوجية والتي عينت أن علم الاجتماع لم يبدي اهتماماً كبيرا بالرؤية الأنتروبولوجية للجسد بما هو نظام تصنيفي. ولقد اعتبر العقل عوضاً للجسد مستقبل ومنظم تصورات تتعلق وتركن إلى الطبقات الاجتماعية. كانت سنوات الثمانينيات القرن الماضي، البداية الفعلية لإنشغال الجاد والمركز بالجسد وصرح الباحثون في علم الاجتماع بالأهمية الخفية التي عزاها علم الاجتماع التقليدي للجسد، ونتج عن هذا عدد من الدراسات الإمبيريقية والنظرية. من ضمن أهم هذه الدراسات، أعمال "ترنر" ((Turner 1984، كتاب "أونيل" ( (Five bo Oneil. 1985 والمجلدات الثلاثة التي تبحث في تاريخ الجسد التي حررها. "فهر ناداف ونازي"، والمجموعة التي حررها "فيذرسون" وآخرون (1991). كل هذه الأبحاث أعانت على جعل الجسد موضوعاً للدراسة السوسيولوجيا مزدهراً وجديراً بالإحترام.
رامت هذه الأعمال إلى تحسين منزلة الجسد في علم الاجتماع والنأي به بعيدأً عن حالة
الحاضر الغائب بحيث يصبح موضوعاً مركزياً في الدراسة أيضا، وقد تعاملت مجتمعات القرن
العشرين الشمولية مع الجسد، كصورة وكمثال، بشكل أكبر وضوحا. هكذا أبدت الفاشية،
وخصوصاً الإشتراكية الوطنية، اهتماماً بمجتمع يتكون من أجساد خالية من العقول،
انعكس في فنها واستقي من رؤية مفصلة في الجسد الاجتماعي.
"في القرن العشرين، أصبح هناك إهتمام
للناس عموماً بإعتبار أجسادهم ملكيات فردية ترتبط بشكل تكاملي مع هوياتهم. لقد
تحقق ذلك عبر النزوعات السابقة الذكر، إذ تصاحبت قدرتنا على التحكم في أجسادنا مع
الشك في أهميتها. في هذا السياق، تزامن بروز الجسد في العصر الحديث كقضية اجتماعية
مهمة مع اهتمامات علماء الاجتماع بطريقة لم تكن واضحة. فضلا عن ذلك، ما أن اعتبر
الجسد مشروع رصيناً للدراسة، حتى شرع علماء الاجتماع المهتمين في اعتبار القضايا
التي شغلت علم الاجتماع تقليدي منشغلاتاً ضمنياً بالجسد. ولقد فرض ظهور النسوية كذلك، في
الستينيات القرن الفائت وتطوورها اللاحق على الأجندة السياسية قضايا تتعلق بتحديد
النسل وحقوق الإجهاض. أيضاً فإنها شكلت سياق مشروع أكثر شمولية عند النساء يستهدف
استعادة أجسادهن من سطوة وسوء معاملة الرجال. وكما يلاحظ "جل كركب"
و"لوري سمث كلر" (Kirkup and keller. 1971)، شكلت جماعات رعاية الذات محاولات معززة
لتعميق معرفة النساء بأجسادهن. إن الإهتمام بالجسد في المجتمعات المعاصر إرتفعت
وتيرته مع ظهور بنية المجتمعات الرأسمالية المتقدمة في النصف الثاني من القرن
العشرين. بوجه عام حدث تحول في التركيز على العمل الشاق في مجال الإنتاج وصاحبه
تقشف وحرمان في مجال الإستهلاك. عوضاً عن ذلك، فإن ضعف الرأسمالية التنافسية
المؤسسة على قوة العمل تميل إلى التوفير والإستثمار، تقصير فترة أسبوع العمل،
وتكثيف الإنتاج الموجه شطر الترفيه، تشجع الفرد الحداثي على بذل جهد أكبر في
الاستهلاك بقدر ما شجعه على إنتاج السلع والخدمات. الجسد في ثقافة الاستهلاك أصبح
بشكل متصاعد مركزياً وأعان على تكريس الذات المؤدية التي تعامل الجسد كآلة يتوجب
شحذها، العناية بها، إعادة تشكيلها، وعرضها بعناية عبر ممارسات من قبيل التمارين
البدنية، برامج الصحة الشخصية، حماية الألياف العالية والألبسة محددة الألوان.
وكما يجادل "فيذرسون" (Fetherson) لم يعد الجسد في الثقافة الاستهلاك وعاء
للخطيئة، بل أصبح يقدم نفسه كشيء قابل للعرض داخل وخارج غرفة النوم. حين نضع هذه
الوقائع في سياق تاريخي أوسع، يمكن إعتبارها أيضاً نتائج تغييرات بدأت في القرن
التاسع عشر، حين لم تعد الملابس وعروض الجسد علامات مباشرة للوضع الاجتماعي، بل
غدت تجليات للشخصية. وبينما كانت الملابس المزخرفة تعبر عن الوضع الاجتماعي، أصبح
عرض الذات معبراً عن شخصية الفرد الحقيقية. لقد ساعد هذا في ثقافة الاستهلاك
المعاصرة على تكريس خبرة أن يصبح المرء جسده، بمعنى أن يماهى نفسه إيجابياً أو
سلبياً بجسده الخارجي، وأن يصبح بشكل منظم قلقاً من أن يخذله جسده أو أن يتهاوى
منه إذا لم يوله عناية تامة ومستمرة. يعد هذا المفهوم للجسد مركزياً لطريقة الناس
في إدراك أجسادهم كمشاريع، كما يرتبط أيضاً بإختبار البيئة بوصفها مصدر خطر خارج
نطاق السيطرة، وبالخوف من تقدم السن والمرض والموت. لكن شكوك علماء الاجتماع حول
تحديد ماهية الجسد. إنعكست بوضوح في أعمال الحساسية الفلسفية لما بعد الحداثة،
التي تخلت عن المشروع الحداثي الخاص بمعرفة ماهية الجسد. عوضاً عن ذلك، إعتبر
الجسد حاجزاً فارغاً أو نظام استقبال علامات قابل دوماً للتشكل وإعادة التشكل عبر
نصوص أو خطابات خارجية"1.
وخلاصة
القول إن السياق المتأخر لظهور الجسد في علم الاجتماع، يعود إلى تأخر الأسباب
المحركة للجسد بوصفه موضوع أساسي لتحليل السوسولوجي. فنمو نسوية الموجة الثانية،
والتغيرات السكانية التي لفتت الإنتباه إلى حاجات كبار السن في المجتمعات الغربية،
بالإضافة إلى ظهور الثقافة الإستهلاكية المرتبطة بتغير بنية الرأسمالية الحدثية،
والأزمة المتزايدة في معرفة ماهية "لغة الجسد"2. تتنوع هذه العوامل وتنوعها مهم لتوضيح علة ظهور الجسد موضوعاً
للدراسة وتأطير النظري، وليس فقط في علم الاجتماع، بل في كل العلوم الاجتماعية.
بحسب تنوع العوامل الاجتماعية التي لفتت الإنتباه إلى أهمية الجسد في المجتمع
المعاصر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - كرس شلنج، الجسد والنظريات الإجتماعية، ترجمة منى البحر ونجيب الحصادي، الطبعة الأولى 2009، دار العين للنشر، الفصل الثاني الجسد وعلم الإجتماع من ص 41 إلى 66.
2- لغة الجسد علم تدرس طرق التواصل الغير اللفظي، موضوع بحثه الأساسي هو التخاطب الغير لفظي اللاشعوري. ويحاول الإحاطة بردود فعل الجسم عند التواصل مع الغير عن طريق ملاحظة الحركات الصغيرة والبسيطة للوجه والجسد.
1 - كرس شلنج، الجسد والنظريات الإجتماعية، ترجمة منى البحر ونجيب الحصادي، الطبعة الأولى 2009، دار العين للنشر، الفصل الثاني الجسد وعلم الإجتماع من ص 41 إلى 66.
2- لغة الجسد علم تدرس طرق التواصل الغير اللفظي، موضوع بحثه الأساسي هو التخاطب الغير لفظي اللاشعوري. ويحاول الإحاطة بردود فعل الجسم عند التواصل مع الغير عن طريق ملاحظة الحركات الصغيرة والبسيطة للوجه والجسد.