-->
aatif errabiy aatif errabiy

مدخل عام لسوسيولوجيا الجنسانية (محاولة في التأطير لعلم إجتماع الجنسانية ).


أ - مدخل عام لسوسيولوجيا الجنسانية (Sociology of sexuality).


          يعرف قاموس أكسفورد Oxford الإنجليزي الجنس Sexe، بصورة أولية على أنه: كل من قسمي الكائنات العضوية على حدة، والمصنفين ذكراً وأنثى على التوالي، أي الذكور والإناث بالإجمال كما هما. هذا التعريف عام جداً يشمل الرجال والنساء ككل. وبهذا المعنى فإن الجنس سمة أصلية في الطبيعة البشرية. لذكر والأنثى على حد السواء، وليس مجرد فعل الجماع. وثمة تعريف معاجم آجر تعكس إستخدام كلمة الجنس في وجوهها المتغيرة والحصرية. وفي الاستخدام الحديث، غالباً ما يشتمل الجنس على مفهوم أوضح: أنه مجمل التباينات القائمة في بنية ووظيفة الأعضاء التناسلية التي على أساسها تصنف الكائنات ذكراً وأنثى.  وفي العصر الراهن، حين نتكلم عن الجنس، لا نعني في الغالب الجنس من حيث الذكورة والأنوثة، أو الإختلافات بين الذكر والأنثى فحسب، بل نعنى، وبشكل أوضح، الإتحاد الجنسي البدني. ومعظم الناس في الوقت الحاضر يناقشون العملية الجنسية أو الجنس ببساطة، بمعنى الجماع.


مدخل عام لسوسيولوجيا الجنسانية https://aatiferrabiy.blogspot.com


     هنالك كلمات أخرى بهذا الصدد خضعت لتغيرات مماثلة. فمثلا كلمة إتصال Intercourse وتعنى معجمياً: اتصال، جماع، علاقات. كانت في الأساس تستخدم بمعنى العلاقات المتبادلة، وحسب الإستخدام القديم كانت مقتصرة على التبادلات التجارية. وفي روايات العصر الفيكتوري كان إستخدامها مرتبطاً بالاجتماعات والمداولات. ولعل مستخدميها من الكتاب السابقين كانوا سيُصدمون لو شهدوا مرادفتها الجديدة، (الإتحاد الجسدي...إلى أخره)، رغم أن كتاب القرن التاسع عشر المشتغلين في حقل العلوم التطبيقية سبق لهم أن تحدثو عن الاتصال الجنسي المحظور. ولأن كلمتي الجنس والاتصال الجنسية تنطويان على معان مفتوحة ومقيدة في آن واحد، وربما تكون الأخيرة هي السائدة حاليا، فقد سعى بعض الكتاب لاشتقاق مصطلحات أو كلمات أخرى مكافئة. إذ أن "د.س. بيلي D.s.baily، أحد الخبراء البارزين المختصين بتاريخ التعاليم الجنسية في المسيحية، قد استخدام في كتاباته  مصطلح العلاقات أو الإتصال التناسلي بدلاً من الاتصال الجنسي أو الجماع المستخدمين تقنياً. فكلمة تناسلية Venereal مشتقة من فينوس Venus، إلهة الحب والجمال عند الرومان، ولكن، لسوء الحظ، فإن هذا الربط مُلتبس في الاستخدام اللغوي الشائع في الإنجليزية، لأن كلمة تناسلي توحي، ببساطة شديدة، بداءٍ مرتبط بالإتصال الجنسي. ومن غير اللائق أن نحمِّل (الجنس) هذا المعنى الإزدرائي الشائع حاليا."1.

     "أما في المعجم العربي فإن لفظة جنس: تعنى الضَّرْبُ مِنْ كُلِّ شَيء وهُو مِن الناس ومن الطُّيْر ومن حدود النحو والعرُوض والأشياءِ جُملة. قال ابن سيده: وهذا على موضوع عباراتِ أهل اللغة وله تحديد، الجمعُ أجناسٌ وجُنُوسٌ، قالَ الأنصارىُّ يصف النِّخْل: تخيرتها صالحات الجُنُوسِ لا أستميلُ ولاأستقيل والجنْسُ أعم من النوع، ومنه المجانسةُ والتجنيس. ويُقالُ: هذا يُجانِسُ هذا أي يشاكلهُ واتحد معه في الجنس. ويُقالُ: هذا يُجانسُ هذا أي يُشاكِلُهُ، وفُلانٌ يُجانسُ البهائم ولا يُجانسُ الناس إذا لم يكن له تمييز ولا عقل، والإبل جنسٌ من البهائم العُجم، فإن واليتَ سِنّأ من أسنان الإبل على حدةٍ فقد صنفتها تصنيفاً كأنك جعلت بَناتِ المَخاضِ منها صنفاً وبنات اللبُونِ صنفاً والحقاقَ صِنْفاً، وكذلك الجدعُ والثني والرُّبَعُ. والحيوان أجناس: فالناس جنسٌ، والإبل جنسٌ، والبقر جنسٌ، والشاء جنس.                                 
وكان الأصمعي يدفع قول العامة هذا مجانس لهذا إذا كان من شكله، ويقول: ليس بعربىِّ صحيح، ويقول: إنه مولد وقول المتكلمين: الأنواع مجنوسة للأجناس كلام مولدٌ لأن مثل هذا ليس من كلام العرب. وقول المتكلمين تَجَانَسَ الشيئان ليس بعربيِّ أيضاً إنما هو توسُّعٌ. وجىء به من جنسِك أى من حيث كان، والأعرف من حسك. التهذيبُ: ابن العرابي: الجنس جمود، قوله الجنس جمود، عبارة القاموس: الجنس بالتحريك، جمود الماء وغيره. وقال: الجنس المياه الجامدة"2.                                  
     
     نلاحظ نفس الشيء بالنسبة لدلالة المعجمية للفظة الجنس في اللغة العربية، فإنها بعيدة كل البعد عن المعنى المتداول في الأوساط العلمية المعاصرة، وحتى تمثلات الحس المشترك، التي تضفي على المنطوق معنى مغاير يتعلق بالممارسة الجنسية أو الفعل الجنسي، ورغم أن لفظة الجنس حمالة وجوه ولا يمكن فهمها إلا داخل سياق جملة معينة أو نص أو مقالة. فأحياناً تفهم على أساس جنسية أي الأصل الوطني والترابي، وأحياناً نفهمها على نطاق يتعلق بالهوية الطبيعية ذكر أو أنثى.

     لكن  بالعودة  إلى مفهوم  الجنس  في  أدبياته  الفلسفية  "فإنها  تعرف  الجنس (E .Genre (f)  .Gene 
بأنه هو ذلك المقول على كثيرين المختلفين في النوع الحي.                                                 
- وجنس الأجناس، أو الجنس العالي. (
E ).Summum genus  Genre suprême وهو الذي ليس فوقه جنس أعلى منه، وليس تحته جنس، كالجوهر.                                       
- وهناك الجنس المتوسط وهو الذي فوقه جنس وتحته جنس.
                        
- والجنس الأدنى أو القريب (
E ) Proximate genus. (F) Prochain genre 
 
وهو أصغر الأجناس ما صدقا، ولا ينطوي إلا على أنواع ويقابل الجنس العالي أو البعيد (Genre suprême).
والجنسي (E).Générique (F) .Generic  المنسوب إلى الجنس ويقابل النوعي
"3.
كما يتضح يتسم هذا التحديد بالشمولية، أنه يضع الجنس في تراتبية هـرمية بين أنواع جنسية عالية وأخرى أدنى منها درجة ومرتبة، ويركز على النوع الحي بإعتباره عملة لهذه التراتبية.


     وهناك بالمقابل علم التصنيفات Taxonomie، والذي يعنى بدراسة تصنيف وتقسيم الكائنات الحية، ويعتبر هذا   الفرع   المعرفي   النوع   الجنسي   مجرد  صنف  من   أصناف  الكائنات  الحية الكثيرة والمتنوعة.    
وطبقاً لما أقره عالم التاريخ الطبيعي السويدي كارل فون لينوس 
Carivon linnaens في منتصف القرن الثامن عشر، فإن الكائنات الحية تنشطر إلى ثمانية تصنيفات وفق الجدول التالي:

1-    المملكة 
                  1 – kingdom
2-    الشعبة
   2 – phylum          
3-    الطائفة
 3 – class               
4-    الرتبة
 4 – order              
5-    الفصيلة
  5 – family            
6-    الطبقة
  6 – species           
7-   النوع
 7 – genus          
8-    الضرب
  8 – variety            
  1) جدول يبين أنواع أصناف الكائنات الحية حسب "كارل فون لينوس" عالم التصنيفاتTaxonomie .


إن الإلتباس الحاصل في إستخدام  مصطلح النوع بإعتباره هو التعبير المثالي على الجنس لا ينطوي على الكثير من الحقيقة، لأنه مجرد صنف من المفاهيم الكثيرة في علم الأحياء الذي يدرس منظومات الحياة والأرض المعقدة والتي تشي بطابع من التصميم. أنه عن حق الأب الشرعي والمؤسس لجملة من الأوصاف للكائنات الحية: (الجنس، الشكل، النمط، الصنف، المرتبة، الجيل، السلالة، العترة، العرق...إلخ).


      أما التحديد العلمي لمفهوم الجنس كما عرفه  تشارز دارويين في رائعته نشأة  الإنسان والإنتقاء  الجنسي.
"فإن الجنس عنده: هو كل ما يتعلق بالممارسات التكاثرية، وانقسام الكائنات إلى شق جنس مؤنث وأخر مذكر، بالإخصاب اللاتزاوجي، أو بالإخصاب الذاتي والقدرات الجنسية المنتجة. والتلوين الجنسي والصراع الجنسي، والوراثة المحددة جنسيا، والإنتقال المحدد جنسيا (للصفات)"4.


      لقد عرفت مفاهيم الجنس، شأنها شأن مجموعة من الأفكار التقليدية، تغيرات مثيرة في العصر الحديث، فقد  أعطت بصورة جوهرية جوانب مهمة من حياة الناس الجنسية في البلدان الغربية خلال العقود القليلة الماضية، وفي المجتمعات التقليدية. إنحصر مفهوم الحياة الجنسية بعملية الإنجاب، وأصبح تعرف الحياة الجنسية من ناحية ربطها بالعلاقة الجنسية مع الجنس الآخر أو في إطار الزواج الأحادي في نطاق الحياة الزوجية، إن هذا المفهوم قد أصبح اليوم ينطوي على قدر من القبول بأشكال شتى من السلوك والتوجه الجنسي في سياقات عريضة ومتنوعة.

 تعتبر     قضية الجنس منذ ردح من الزمان مسألة شخصية، مما شكل بحد ذاته تحدياً لعلماء الإجتماع. وكان أكثر ما نعرفه عن الحياة الجنسية وفقاً لما قدمه علماء الأحياء / البيولوجيا والباحثون في المجالات الطبية والجنسية. وكثيراً ما يلجأ العلماء إلى دراسة عالم الحيوانات في محاولة منهم لفهم المزيد عن السلوك الجنسي البشري. ولا ريب أن الجانب البيولوجي يشكل عاملا حاسما في السلوك الجنسي لأن التشريح الفيسيولوجي للأنثى يختلف اختلافا بنيويا عن التكوين الجسدي للذكر.     
لا يختلف عاقلان على أن الفعل  الجنسي البشري ينطوي على معان  ودلالات  تختلف عن  تلك التي تعمل في مملكة الحيوان. والتي أصَّل لها علماء الإحياء تحت قوانين صارمة.

     "فما يميز البشر عن باقي الكائنات أنهم يستخدمون نشاطهم الجنسي ويعبرون عنه بوسائل شتى تتجاوز في جميع الحالات الأساس البيولوجي للبحث. والنشاط الجنسي يكون رمزياً في أكثر جوانبه، فهو يعبرعن ملامح من هويتنا وشخصيتنا، ويعكس طبيعة المشاعر والعواطف التي تراودنا. كما أنه من العُمق والتعقد بحيث لا يمكن أن نعزوه إلى النوازع البيولوجية فحسب، وينبغي فهمه على هذا الأساس في إطار المعاني الإجتماعية التي يُسبغها عليه البشر"5. هؤلاء الناس وعبر مجموعة من القنوات (العلمية، والدينية، والحس المشترك) إستطاعوا أن يفرزُ ترسانة مفاهمية ومعجمية كبيرة حول موضوع الجنس الذي يشكل عن حق موضوع جدير بالدرس والتحليل.     
                                                             
     هذا صلاح الدين المنجد يؤكد على أن اللغة الجنسية - المعيارية والغير المعيارية - عند العرب لغة غنية ومتنوعة فعلى سبيل المثال، تضم هذه اللغة أزيد من مئة لفظ تدل كلها على النكاح بمعنى الجماع، بالإضافة إلى أسماء للأعضاء التناسلية. "ويرجُع المنجد غنى اللغة العربية الجنسية إلى تنوع لغات القبائل وإلى كثافة الحياة الجنسية عند العرب في العصر الجاهلي وفي العصور الإسلامية المزدهرة (الأموي, والعباسي) فالحاجة إلى تسمية الجنس وكل ما يتعلق به يعكس وجود حاجة إجتماعية ماسة وملحة إلى ذلك"6.

تعمل التعبيرات الجنسية على عكس المشاعر الإنسانية السيكولوجيا والسوسيولوجيا، وقد تكون هذه التعبيرات على شكل كتابة وكلام أو أفعال أو رموز.                                                                 
هذه الأشكال من التعبيرات تطفو على سطح تفاعلاتنا، وتبحر في البنى الإجتماعية. وتعكس درجة ومستوى إشباعنا الجنسي والعاطفي.


ب - الإنتقال من مركب الجنس إلى مركب الجنسانية.


    كان الإستعمال اللأقدم لمصطلح الجنس في القرن السادس عشر يشير إلى تقسيم الإنسانية إلى قسم ذكوري وقسم أنثوي، وخاصية الوجود كذكر أو أنثى. أما المعنى اللاحق، وهو المعنى الذي شاع منذ بواكير القرن التاسع عشر، فيشير إلى العلاقات الجسدية بين الجنسين. وهكذا فإن ما نعرفه بوصفنا ذكور وإناث، وما صار يسمى بدءاً من أواخر القرن التاسع  عشر، بالجنسية المغايرة مع الجنسية المثلية بوصفها الآخر الشاذ.                                            
أمام هذه البرديكمات أراد علماء الجنس. إكتشاف قوانين الطبيعة، أي المعنى الحقيقي للجنس، عن طريق إكتشاف مظاهرها وتجلياتها المتنوعة.
                                                   
وغالباً ما اختلفو مع بعظهم، لكن الجميع توافقوا على أن الجنسانية 
Sexuality كانت بطريقة معينة خاصية أساسية أو جوهراً يقف وراء عدد من الفعالية والتدابير النفسية. ذهب "سيغمود فرويد 1856-1939 Sigmund Freud" الذي صك مفهوم الجنسانية وأسس له، في كتابه ثلاث مقالات حول الجنس، بدءاً بمناقشة المثلية، وهكذا فصل الروابط المتوقعة بين الجنس وإختيار الموضوع المغاير جنسياً. ثم واصل مناقشة الإنحرافات، وهكذا قطع الصلة الرابطة بين المتعة والفعالية التناسلية. وفي تقليد التحليل النفسي، تحظى الجنسانية بالأهمية المركزية لأشغال اللاشعور. أو بعبارة أعم، تصبح الجنسانية قارة معرفية متميزة، لها مستكشفون مختصون.                                              
وعلى النقيض من يقينيات هذا التقليد، شهدت أواخر القرن العشرين انبثاق طريقة بديلة لفهم الجنس. فأصبح لدينا مفهوم الجنسانية بناءً إجتماعياً، ووحدة خيالية، لم توجد سابقاً، وربما لن توجد مرة أخرى في الزمان ما من المستقبل.                                                            
"يستفسر المنظرون المعاصرون عن طبيعة 
 مقولات الجنسانية والإفتراضات التي ورثناها وحتميتها. وهم يرون أن مفهوم الجنسانية يوحد جمهرة من الفعاليات التي لا يوجد بينها رابط ضروري أو جوهري: (خطابات، قوانين، مؤسسات، تنظيمات، إجراءات إدارية، نظرية علمية، ممارسات طبية، تنظيم إدارة المنزل، نماذج ما تحت الثقافة، ممارسات أخلاقية ومعنوية، ترتبيات الحياة اليومية )"7.

     ومن أبرز التأملات التي تعنى بالموضوع نذكر "مشيل فوكو Michel Foucault 1926 - 1984" الذي تطرق لمسألة الجنسانية بالدرس وتحليل، في كتابه. تـــاريـــــخ الجنســانية في ثلاثة مجلدات (الكتاب الأول: إستعمال المتع/ الكتاب الثاني: الإنشغال بالذات/ والكتاب الثالث: إعترافات الجسد، وهذا الأخير غير متوفر، لأن فوكو لم يتمكن من إصداره بسبب موته. وقد ترك وصية تمنع منع كلياً أن بنشر أي مكتوب بإسمه بعد موته لم يوافق عليه).  
عمومأ تحظى هذه الدراسة بقيمة إبستومولوجيا إستثنائية، لأنها من أول الدراسات الأركيولوجيا لنقد أنظمة السلطة والمعرفة التي نظمت الحياة الجنسية في المجتمعات الغربية من الحضارة اليونانية القديمة إلى التحولات التي عرفتها في العهد الجديد مع المسيحية، مروراً بالإمبراطورية الفيكتورية في القرن السابع عشر وصولاً إلى مركب الجنسانية الذي عرف فوضى جنسية خلال القرن العشرين.  
يوضح مشيل فوكو في بداية عرضه الشيق في رائعته تاريخ الجنسانية الفرق النوعي بين الجنسانية والجنس، إذ أن الأولى تشتمل على مجمل التقنيات التي تُدار بها الحياة الجنسية بمعناها الواسع والشامل. في حين أن الجنس كعملية حيوية مباشرة تؤلف جزءاً من رتابة العضوية. وهي لا تعنى هذه التقنيات مباشرة.


     الجنسانية تدخل مجال الحفر الأركيولوجيا للكشف عن التقنيات التي تستطيع الذات عندها خلالها الإنفلات  من ضغوط السلطات الخارجية المحددة لسلوكيتها، والإنزياح خارج المعرفة الرتبية.
ويضيف فوكو بأن الأمر لا يتعلق بخطاب واحد حول الجنس، بقدر ما يتعلق بعـدد كبير من الخطـابات أنـتجتها مجموعة أجهزة عاملة في مؤسسات مختلفة، كانت القرون الوسطى قد نظمت خطاباً موحداً إلى حد كبير حول الشهوة الجنسية وممارسة التوبة. وخلال القرون الحديثة تفككت هذه الوحدة النسبية، وتبعثرت، وتعددت بتفجر خطابات متمايزة، اتخذت أشكالاً عدة، نذكر منها: ( البيولوجيا، الطب، والطب النفسي، علم النفس، الأخلاق، التربية). بل الأكثر من ذلك يؤكد فوكو بأن ما يوسم قروننا الثلاثة الماضية ليس الإهتمام المتماثل بإخفاء الجنس، ولا إحتشاماً زائداً في الكلام عنه، بقدر ما هو بالأحرى التنوع والإنتشار الواسع للأجهزة التي اختُرعت للحديث عن الجنس، ولاستثارة الحديث عنه، وتسجيله ونقله، وإعادة توزيعه.
                                          
   
      يذهب مشيل فوكو إلى إعتبار "أن الجنس لا يمكن تناوله إلا عبر الجنسانية التي تعيده إلى مكانه الطبيعي في شبكة أكثر تعقيد، تغدو فيها السلطة الحيوية مركباً حركياً، لا سكونياً، يولد بإستمرار من حوله وفي ذاته تشكيلات سلطوية معرفية، تلزم الخارج بأزمة الداخل، وتلزم الداخل بأوامر ونواهي وتشكيلات الخارج الغير متناهية حول الجسد وعليه وفيه"8.                                             
تكمن قيمة عمل فوكو في رصده الدقيق اللإنتقال من مركب الزواج النموذج المعياري الذي عرفته المجتمعات الغربية والذي عرف نظام صارم من القواعد القانونية التي تسعى لتثبيت نظام القرابة والنسب والإسم، وضبط إنتقال الثروات عبر الإرث، كل هذه الإشراطات التي كانت تحت ذريعة الأخلاق ونظام الكنيسة كان هدفها الجوهري كبث النشاط الجنسي والمتع والرغبات، وتوجيه طاقة الجماهير للعمل والكد، لتضمن النخب الحاكمة توجيه الجهد والطاقة من أجل تكريس مصالحها الإقتصادية والمادية. وثم إلى مركب الجنسانية أو الفوضى الجنسية خلال القرن العشرين، هذه المرحلة عاد فيها الإعتبار للمتع الجنسية وإحساسات الجسد، وأصبح إشباع هذه الرغبات غاية في ذاته، بل الأكثر من ذلك أصبح الجسد موضوع قابل اللإستهلاك في الحياة المدينة المعاصرة.

     ينظم "عبد الصمد الديالمي" عالم الإجتماع المغربي إلى النقاش، في محاولة منه للبحث عن مظاهر الجنسانية في المجتمعات العربية، وإعتبر أن حقل الجنسانية العربية مازال يقوم على السلطة والتراتبية بين الرجال والنساء، بين الكبار والصغار، بين الأسوياء و(الشواذ)، بين الزبائن والعمال الجنسيين. وتبين أن الطابع السلطوي والقمعي المهيمن على العلاقات الجنسية يجعل من السلوك الجنسي سلوكاً اضطرارياً في معظم الحالات، أي سلوكاً ناتج عن الحاجة، أو الخوف، أو الواجب، أو إستغلال الفرصة. وطبعاً لا مجال للتفكير في الوقاية منه في إطار علاقات جنسية ينقصها الإختيار والحوار والتشاور بين الفاعل والمفعول به وليس فاعلين، أي بين شريكين. من هنا يقر الديالمي بضرورة إعادة النظر في البناء السلطوي الذي تقوم عليه الجنسانية العربية.

     ليستخلص الباحث وجود مجموعة من التناقضات، بين قول متحرر، وسلوك وفعل متزمة. ومن بين أبرز هذه المفارقات نذكر على سبيل المثال: القانون والمجتمع. قانون أو شرع يحرٍّم أو يجرم كل ما هو ليس بزواج/ وبين بعض الشرائع الإجتماعية العربية التي بدأت تقبل بعض أشكال الجنسانية غير الزواجية من دون أن تبلغ بعد مستوى مأسستها.
                                           
     "في هذا الصدد بدأ بعض المثقفين العرب يتحدثون عن تخلف القانون عن الواقع ويـنتـقـدون التشبت القانوني بتجريم بعض السلوكات الجنسية التي لم يعد المجتمع ينظر إليها كجنح، لكن هذا الموقف الإيجابي من بعض تمظهرات الجنسانية غير الزواجية لم يتم بعد تبنيِّه من طرف قوى سياسية أو جمعوية في المجتمعات العربية التي تعرف نوعاً من الإنفتاح الجنسي نسبياً.                                  
وهكذا يظل نقد المثقف للقانون الجنائي في موضوع الجنس
 نقداً فردياً ومحتشم في نفس الوقت. ويعيش بعض نشطاء حقوق الإنسان بدورهم تناقضاً بين موقف فردي ليبرالي جنسياً وبين موقف جمعوي محافظ جنسياً"9.

     وقد تبنت المنظمة العالمية للصحة بدورها التمييز بين الجنس والجنسانية، وإقترحت التعريفات التالية: يحيل الجنس على مجموعة الخصائص البيولوجية التي تقسم البشر في كل الحضارات إلى إناث وذكور.
أما الجنسانية، فهي جانب مركزي في الكائن البشري يضم الخصائص البيولوجية المميزة بين الذكر والأنثى، والخصائص الإجتماعية المميزة بين الرجل والمرأة، ويضم: الهوية الجنسية، الهوية النوعية، التوجه الجنسي، الإنجاب، ويتم تجريب الجنسانية أو التعبـير عنها من خلال الإستهامات، الرغبات، المعتقدات، الموقف، الأنشطة، الممارسات، الأدوار وعلاقات، القيم.
                                 
نستطيع أن نقول بأن الجنسانية حسب تعريف المنظمة العالمية للصحة، نتيجة تداخل بين البيولوجي والنفسي وسوسيوإقتصادي والتاريخي والثقافي والأخلاقي والقانوني والديني.


    خلاصة القول أنه لا يمكن النظر إلى الجنسانية بوصفها سرداً، أو مجموعة قصصية نرويها لبعضنا عن مغامرات الجسد المنفلت من توجيهات الوعي والإرادة والرقابة الملازمة للبنى الإجتماعية.
بل يجب فهم هذا التعريف الجديد للجنس، الذي وإن أثار حتماً موجة من الخلافات، إلا أنه قدم بناءً تاريخياً يقف على لحظة الجنسانية بإعتبارها نموذج علمي يبدأ من الجسد اليوناني وكيف إحتضن اللذة، غير أنه عند المسيحية يعد شهوة ولحم ورغبة، والرغبة هنا تأخذ صياغة جوهرية مختلفة تماماً عن مفهوم الرغبة اليونانية، لأنه حين تكون متعة الجسد عند اليونان مقبولة ومرحباً بها. شرط أن تخضع لمبدأ الإعتدال في أسلوب تحقيقها، فإن المتعة تتحول إلى مفهوم الشهوة المحرمة في المسيحية والإسلام كذلك، فلما بعث محمد
 صلى الله عليه وسلم هدم نكاح ما قبل الإسلام كله: (نكاح الإستبضاع، الرهط، البدل، المضامدة، السر- لقوله تعالى في سورة البقرة {ولكن لا تواعدهن سراً} -، ونكاح الشفار، المساهات، والضيزان أو المقت، المحارم، الزنا، البغايا، اللواط الأكبر - رجل مع رجل - ، واللواط الأصغر وهو وطء المرأة من الدبر، والسحاق) - مجموع أنواع النكاح خمسة عشر نوع -. إلا نكاح الناس وهو حين يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو إبنته، فيصدقها ثم ينكحها في إطار مؤسسة الزواج.

    من الأكيد على أن هذه الأنماط من الأنشطة الجنسي السالفة الذكر، توغل في التاريخ ما قبل الإسلام والمسيحية بآلاف السنين. لكن بعد ظهور الديانات سماوية أصبحت كل أنماط المتع مرادفة لفعل الخطيئة، والتي لا تلقى إلا حداً أدنى من القبول الإجتماعي، وتحولت بعد هذا التاريخ الطويل إلى مجرد واجب متكرر، إنجاب الأولاد والحفاظ على النسل البشري، دون أدنى تورط في إحساسات ورغبات جانبية تشوش على إشتغال النظام المعياري.                                             
  
     لكن العمال الجنسيين والزبناء... وكل من أبو إلا أن ينقلو اللذة خفية، هنالك حيث يتبادلون الكلمات والإشارات والإيماءات والرموز والعلامات وجملة من الحركات والمواقف المنحرفة عن المعيار.
قد يدفعون ثمنها باهظا مرقبة ومعقبة، لكن هناك فقط، يحق للجنس المتوحش أن يتمتع بأشكال من الواقع، أشكال كأنها معزولة في جزيرة، بأنماط من الكلام ومن الخطاب السري المحدود والمرمز في مكان وزمان غير رسمي.
                                                                              
"السؤال المحير هنا هو أين ينبغي البحث عن أسس الأمر الأخلاقي؟ تكون الإجابة دائماً مجاورة لعبارات السمو والطهر، ويكون من الملائم في غالب الأحيان مقارنته بالأخلاق الدينية وبتلك الأخلاق التي تكون عند بعض الفلاسفة والمفكريين رغم المعادات والعلاقات المتوترة بين هذين النموذجين.
إذن لا يجب الوقوف عند هذا الحد والخوف من شرور الجنس وعواقبه الوخيمة والإختباء وراء الشروط الصورية والإعتقاد بأنه مع مؤسسة الزواج يكف النشاط الجنسي عن أن يكون ضاراً
"
10.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – لجيفري بارندر، الجنس في أديان العالم، ترجمة نور الدين البهلول، دار النشر الكلمة، ص 9.8.7.
2 – ابن منظور، لسان العرب، تحقيق (عبد الله على الكبير، محمد أحمد حسن الله، هاشم محمد الشاذلي)، دار المعارف القاهرة، ص 700.
3 – إبراهيم مدكور، المعجم الفلسفي، القاهرة الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، ص 63.
4 - تشارز داروين، نشأة الإنسان، ترجمة مجدى محمود المليجي، الطبعة الاولى 2005، دار النشر المشروع القومي للترجمة، ص 362.
5 - أنتوي غدنز، علم الإجتماع، ترجمة وتقديم فايز الصُيّاغ، الطبعة 4، دار النشر المنظمة العربية للترجمة، ص 208.207.206.
6 - صلاح الدين منجد، الحياة الجنسية عند العرب، مطابع دار الكتاب بيروت، ص 81.79.94.
 - طوني بينيت - لورانس غروسبيرغ - ميغان موريس: مفاتيح إصطلاحية جديدة ( معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع )، ترجمة سعيد الغانمي، الطبعة الأولى 2010، دار النشر المنظمة العربية للترجمة، ص 260.259.258.
8 - مشيل فوكو، تاريخ الجنسانية جزء1 إرادة العرفان بمثابة مقدمة للمترجم، ترجمة ومراجعة وتقديم مطاع صفدي وجورج أبي صالح، تاريخ الإصدار الأول 1976، إنتاج منشورات مركز الإنماء القومي بيروت سنة 1880.، ص52.51.                                                                                                          
9 - عبد الصمد الديالمي، سوسيولوجيا الجنسانية العربية، الطبعة الاولى كانون يناير 2009، دار النشر الطليعة للطباعة والنشر بيروت، ص 34.6. 
10 – مشيل فوكو، نفس المرجع، ج 1 ص 29.28.19.18، والجزء الثالث من نفس الكتاب الإنشغال بالذات ص 237.236.235.



التعليقات



إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

aatif errabiy

2016