كتاب حي بن يقضان بن طفيل
وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته إنما كانت ذلك الشيء المرتحل، وعنه كانت تصدر تلك الأفعال كلها لا هذا الجسد العاطل، وأن هذا الجسد بجملته إنما هو كالآلة لذلك وبمنزلة العصي التي اتخذها هو لقتال الوحوش. فانتقلت علاقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه لم يبقَ له شوق إلا إليه...
ثم أخذ ينظر إلى الأجسام التي لا تحس ولا تغتذي ولا تنمو من الحجارة والتراب والماء والهواء واللهب فيرى أنها أجسام مقدَّر لها طول وعرض وعمق وأنها لا تختلف، إلا أن بعضها ذو لون وبعضها لا لون له وبعضها حار والآخر بارد ونحو ذلك من الاختلافات.
وكان يرى أن الحار منها يصير باردًا والبارد يصير حارٍّا وكان يرى الماء يصير بخارًا والبخار ماء والأشياء المحترقة تصير جمرًا ورمادًا ولهيبًا ودخانًا، والدخان إذا وافق في صعوده قبة حجر انعقد فيه وصار بمنزلة سائر الأشياء الأرضية فيظهر له بهذا التأمل أن جميعها شيء واحد في الحقيقة وإن لحقتها الكثرة بوجه ما فذلك مثل ما لحقت الكثرة للحيوان والنبات.
والتزم مع ذلك ضروب الحركة على الاستدارة؛ فتارةً كان يطوف بالجزيرة ويدور على ساحلها ويسيح بأكنافها، وتارةً كان يطوف ببيته أو ببعض الكدى أدوارًا معدودة:
إما مشيًا وإما هرولة، وتارة يدور على نفسه حتى يغشى عليه.