تاريخ علم التربية (البيداغوجية)
لابد من الوقوف على أهمية التربية وكذا التدريس و
تداعياتهما و تمظهراتهما في التفكير الإنساني عامة والمجتمع خاصة و أهميتهما
المرجعية في الإستراتيجيات الإستشراقية للمستقبل، باعتبارهما جزء لا يتجزأ من
تنمية أي تجمع إنساني وتوجه به نحو مدمار
التقدم و الريادة .
إن كرونولوجيا التربية مادة حافلة بجملة من التغيرات و
التحولات؛ حيث يمكن اعتبارها مرآة عاكسة لطبيعة كل مرحلة بشرية و نوع التفكير
السائد فيها، ومدى نضجه أو العكس. وعليه يمثل تاريخ التربية كفاح الإنسان من أجل
تحقيق مثله العليا، كما يوقفنا على تجارب الإنسانية وخبراتها. ويساعدنا على فهم و
تتبع نشأة النظريات التربوية المتنوعة في المجتمعات المختلفة، و تقويم مدى صحتها
في ضوء الظروف سوسيواقتصادية و سياسية ، وكذا علاقة الأنظمة التربوية بالعصور التي
مرت بها الإنسانيةّ، ومدى ازدهارها أو انحطاطها . كما يساعد على الكشف عن الجدلية
القائمة بين تطور المجتمعات و العملية التربوية .
لقد شهد الفكر الإنساني مراحل هامة، كما عرف الفكر
التربوي باعتباره امتداد لعمليات التفكير الإنساني محطات هامة بدوره، و تظهر ملامح
هذا التفكير في المجتمعات البدائية؛ حيث كانت العملية التربوية لا تتجاوز حد
الحياة المعيشية، وبصيغة أخرى تشمل العملية التربوية مراحل متدرجة؛ تبدأ بالأكل ثم
الرعي لنصل إلى مرحلة تعلم الفروسية و شؤون الحرب، وفي الأخير الشيخوخة . كما كانت
تعتمد منطق المحاكاة و التقليد، و ببزوغ هلال الحضارات، عرف حقل التربية نوعا من
التجديد يتسم بإرهاصات العقلانية ، وله أهداف و مرجعيات جديدة، ومع الحضارة
المصرية القديمة أصبح هناك اهتمام باللغة ، الأدب، الفنون، الحرف، الصناعة، أما
فيما يخص الحضارة الصينية المعروفة بطابعها الأخلاقي مع "كنفوشيوس" فاهتمت بالتربية
التي تدرس الفضيلة و خدمة الأقارب وآداب اللباس، وكل ما يخص الفلسفة الروحية. أما
اليونان اللذين يعتبرون مهد التفكير الفلسفي للاستخدام الأصيل للوغوس.
فقد تميزت بروح التجريد والابتكار والحرية الفردية والتربية عندهم هي الحياة السعيدة
الناتجة عن الكمال الجسمي و العقلي على حد سواء.
إن هذه المعلومات أعلاه، تجسد صورة التربية في المجتمعات
القديمة بشكل واضح في تاريخ الإنسان، لينتقل بعد ذلك إلى مرحلة القرون الوسطى؛ هذه
المرحلة التي عرفت بسيطرة الطابع اللاهوتي على التربية، من خلال امتلاك الكنائس
لزمام سلطة، وانحطاط المردودية التربوية وأهميتها؛ حيث اعتبرت كل تربية خارج
الخطاب الديني ما هي إلا هرطقة و فساد. عكس الحضارة الإسلامية التي كانت تعيش أوج
عطائها المعرفي؛ حيث تمت ترجمة أمهات الكتب الفلسفية مع تحليلها وإخضاعها للتحقق و
الاجتهاد بغية التوفيق بينها أي بين الفلسفة وبين الشريعة، كما ركزت هذه الحضارة على جل
العلوم التي تهتم بفهم قوانين الكون من أجل تعميق الإيمان بالله.
أما مرحلة العصر الحديث، فيعتبر عصر النظريات التربوية و
أصل تطورها والاعتماد عليها في كل أبعادها، سواء فلسفيا أو أيديولوجيا أو ثقافيا
أو اقتصاديا. وكما هو معروف في التحقيب التاريخي، فمرحلة العصر الحديث تعرف بأنها
الإطار المرجعي لظهور العلم ، ومعه عملت التربية على تقييم توازن للصحة النفسية والجسدية و الاعتناء بتدريب الجسم و إطلاق سراح العقل و تحريره من القيود. و عليه
بدأ التفكير في كيفية التعلم، وطبيعة المعرفة في العملية التعليمية التعلمية. وظهور ما يصطلح عليه بالبيداغوجيات باعتبارها نظرية تطبيقية للتربية تستمد مفاهيمها
وأسسها النظرية من علم النفس وعلم الاجتماع، كما تعني مجموع طرق التدريس، وهنا
أصبحنا نتحدث عن عملية التربية الممنهجة وفق إطارات مؤسساتية منظمة.
إنطلاقا من هذا الإطار المرجعي، وما رافقه من تطورات على
مستوى التفكير و تعدد طرق التعلم، التي فرضها بالضرورة مسار التجديد التربوي بضروب
الطرائق البيداغوجية، ومروا بالنظام السياسي والكتب المدرسية ودلائل المدرسين
وكيفية التحضير والتقويم، نتج عنه مؤسسة عملية التربية، ثم إخضاعها لمبدأ التراتب
( الابتدائي- الثانوي إعدادي- الثانوي تأهيلي-الجامعة) وكذا التنقيط و الشواهد.
وعليه أصبحت التربية اليوم منظومة تحتضنها مؤسسات تسهر عليها اجتماعيا و
اقتصاديا وحتى ثقافيا في إطار تعليم نظامي.